كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا وَكَانَتْ مُتْعَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّهَا لَا تُجَاوِزُ بِهَا نِصْفَ مَهْرِ مِثْلِهَا فَيَكُونُ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنْ الْمُتْعَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ الْمُسَمَّى.
لَهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ التَّسْمِيَةِ مَعَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُعْطِيَهَا عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ وَلَمَّا كَانَ الْمُسَمَّى مَعَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَلَمْ تَسْتَحِقَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ، فَفِي مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْلَى.
وَلَمْ يُقَدِّرْ أَصْحَابُنَا لَهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ، وَقَالُوا: هِيَ عَلَى قَدْرِ الْمُعْتَادِ الْمُتَعَارَفِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ، وَالْإِزَارُ هُوَ الَّذِي تَسْتَتِرُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ الْخُرُوجِ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ السَّلَفِ فِي مِقْدَارِهَا أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى حَسَبِ مَا غَلَبَ فِي رَأْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَرَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَعْلَى الْمُتْعَةِ الْخَادِمُ، ثُمَّ دُونَ ذَلِكَ النَّفَقَةُ، ثُمَّ دُونَ ذَلِكَ الْكِسْوَةُ.
وَرَوَى إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي مُجَلَّزٍ قَالَ: قُلْت لِابْنِ عُمَر: أَخْبِرْنِي عَنْ الْمُتْعَةِ فَأَخْبَرَنِي عَلَى قَدْرِي فَإِنِّي مُوسِرٌ أَكْسُو كَذَا أَكْسُو كَذَا؛ فَحَسِبْت ذَلِكَ فَوَجَدْته قِيمَةَ ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا.
وَرَوَى عَمْرو عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لَيْسَ فِي الْمُتْعَةِ شَيْءٌ يُوَقَّتُ عَلَى قَدْرِ الْمَيْسَرَةِ وَكَانَ حَمَّادٌ يَقُولُ: يُمَتِّعُهَا بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا.
وَقَالَ عَطَاءٌ: أَوْسَعُ الْمُتْعَةِ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كِسْوَتُهَا فِي بَيْتِهَا دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ وَجِلْبَابٌ.
وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: كَانَ مِنْهُمْ مِنْ يُمَتِّعُ بِالْخَادِمِ وَالنَّفَقَةِ وَمِنْهُمْ مِنْ يُمَتِّعُ بِالْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَمِلْحَفَةٌ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ مَتَّعَ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ.
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: أَفْضَلُ الْمُتْعَةِ خِمَارٌ وَأَوْضَعُهَا ثَوْبٌ.
وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ عَنْهَا فَقَالَ: لَهَا الْمُتْعَةُ عَلَى قَدْرِ مَالِهِ.
وَهَذِهِ الْمَقَادِيرُ كُلُّهَا صَدَرَتْ عَنْ اجْتِهَادِ آرَائِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِيهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا عِنْدَهُمْ مَوْضُوعَةٌ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأَرْوَشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَقَادِيرُ مَعْلُومَةٌ فِي النُّصُوصِ.
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} قِيلَ: إنَّ أَصْلَ الْفَرْضِ الْحَزُّ فِي الْقِدَاحِ عَلَامَةً لَهَا تُمَيِّزُ بَيْنَهَا، وَالْفُرْضَةُ الْعَلَامَةُ فِي قِسْمِ الْمَاءِ عَلَى خَشَبٍ أَوْ جَصٍّ أَوْ حِجَارَةٍ يَعْرِفُ.
بِهَا كُلُّ ذِي حَقٍّ نَصِيبَهُ مِنْ الشُّرْبِ، وَقَدْ سُمِّيَ الشَّطُّ الَّذِي تَرْفَأُ فِيهِ السُّفُنُ فُرْضَةً لِحُصُولِ الْأَثَرِ فِيهِ بِالنُّزُولِ إلَى السُّفُنِ وَالصُّعُودِ مِنْهَا، ثُمَّ صَارَ اسْمُ الْفَرْضِ فِي الشَّرْعِ وَاقِعًا عَلَى الْمِقْدَارِ وَعَلَى مَا كَانَ فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْإِيجَابِ مِنْ الْوَاجِبَاتِ؛ وقَوْله تَعَالَى: {إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} مَعْنَاهُ أَنْزَلَهُ وَأَوْجَبَ عَلَيْك أَحْكَامَهُ وَتَبْلِيغَهُ وقَوْله تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِ الْمَوَارِيثِ: {فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ} يَنْتَظِمُ الْأَمْرَيْنِ مِنْ مَعْنَى الْإِيجَابِ لِمَقَادِيرِ الْأَنْصِبَاءِ الَّتِي بَيَّنَهَا لِذَوِي الْمِيرَاثِ؛ وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} الْمُرَادُ بِالْفَرْضِ هاهنا تَقْدِيرُ الْمَهْرِ وَتَسْمِيَتُهُ فِي الْعَقْدِ، وَمِنْهُ فَرَائِضُ الْإِبِلِ وَهِيَ الْمَقَادِيرُ الْوَاجِبَةُ فِيهَا عَلَى اعْتِبَارِ أَعْدَادِهَا وَأَسْنَانِهَا، فَسَمَّى التَّقْدِيرَ فَرْضًا تَشْبِيهًا لَهُ بِالْحَزِّ الْوَاقِعِ فِي الْقِدَاحِ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِهِ مِنْ غَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ سَبِيلُ مَا كَانَ مُقَدَّرًا مِنْ الْأَشْيَاءِ فَقَدْ حَصَلَ التَّمْيِيزُ بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} تَسْمِيَةُ الْمِقْدَارِ فِي الْعَقْدِ، أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَ الْمُطَلَّقَةِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَنْ فُرِضَ لَهَا وَطَلُقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَلَمَّا كَانَ الْأَوَّلُ عَلَى نَفْيِ التَّسْمِيَةِ كَانَ الثَّانِي عَلَى إثْبَاتِهَا، فَأَوْجَبَ اللَّهُ لَهَا نِصْفَ الْمَفْرُوضِ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَنْ سُمِّيَ لَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ: لَهَا نِصْفُ الْفَرْضِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمَا.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَهَا نِصْفُ الْفَرْضِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا أَنَّ مُوجَبَ هَذَا الْعَقْدِ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَقَدْ اقْتَضَى وُجُوبُ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ وُجُوبَ الْمُتْعَةِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَمَّا تَرَاضَيَا عَلَى تَسْمِيَةٍ لَمْ يَنْتَفِ مُوجَبُ الْعَقْدِ مِنْ الْمُتْعَةِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْفَرْضَ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ كَمَا لَمْ يَكُنْ مَهْرُ الْمِثْلِ مُسَمًّى فِيهِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا بِهِ، فَلَمَّا كَانَ وُرُودُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُول مُسْقِطًا لِمَهْرِ الْمِثْلِ بَعْد وُجُوبِهِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمَفْرُوضِ بَعْدَهُ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَهْرُ الْمِثْلِ لَمْ يُوجِبْهُ الْعَقْدُ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالدُّخُولِ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ اسْتِبَاحَةُ الْبُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ لَا مَهْرَ لَهَا لَوَجَبَ لَهَا الْمَهْرُ، فَلَمَّا كَانَ الْمَهْرُ بَدَلًا مِنْ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ وَلَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ بِالشَّرْطِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ اسْتَبَاحَ الْبُضْعَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْمَهْرُ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الدُّخُولَ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ إنَّمَا هُوَ تَصَرُّفٌ فِيمَا قَدْ مَلَكَهُ وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِهِ لَا يُلْزِمُهُ بَدَلًا؛ أَلَا تَرَى أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي فِي السِّلْعَةِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ بَدْلًا بِالتَّصَرُّفِ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا لِمَهْرِ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ اسْتَحَقَّتْهُ بِالْعَقْدِ كَيْفَ كَانَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا بِمَا لَمْ يَجِبْ بَعْدُ؟ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ لَهَا الْمُطَالَبَةَ بِهِ، وَلَوْ خَاصَمْته إلَى الْقَاضِي لَقَضَى بِهِ لَهَا، وَالْقَاضِي لَا يَبْتَدِئُ إيجَابَ مَهْرِ لَمْ تَسْتَحِقَّهُ كَمَا لَا يَبْتَدِئُ إيجَابَ سَائِرِ الدُّيُونِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقَّةً.
وَذَلِكَ كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَهَا مَهْرٌ قَدْ اسْتَحَقَّتْ مَهْرَ الْمِثْلِ بِالْعَقْدِ وَمَلَكَتْهُ عَلَى الزَّوْجِ حَسَبَ مِلْكِهَا لِلْمُسَمَّى لَوْ كَانَتْ فِي الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ لَمَا سَقَطَ كُلُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَمَا لَا يَسْقُطُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى.
قِيلَ لَهُ: لَمْ يَسْقُطْ كُلُّهُ؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ بَعْضُهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا، وَهِيَ بِإِزَاءِ نِصْفِ الْمُسَمَّى لِمَنْ طَلُقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ.
وَزَعَمَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَإِنْ اسْتَبَاحَ الزَّوْجُ الْبُضْعَ، قَالَ: لِأَنَّ الزَّوْجَ بِإِزَاءِ الزَّوْجَةِ كَالثَّمَنِ بِإِزَاءِ الْمَبِيعِ فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْمَهْرُ بِالدُّخُولِ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهَا عَلَى الزَّوْجِ كَمَا اسْتَحَقَّ هُوَ التَّسْلِيمَ عَلَيْهَا؛ إذْ مَا اسْتَبَاحَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِزَاءِ مَا اسْتَبَاحَهُ الْآخَرُ، فَمِنْ أَيْنَ صَارَ الزَّوْجُ مَخْصُوصًا بِإِيجَابِ الْمَهْرِ إذَا دَخَلَ بِهَا؟ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا بِالْمَهْرِ إذَا لَمْ تَسْتَحِقَّ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ، وَوَاجِبٌ أَيْضًا أَنْ لَا تَصِحَّ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ مِنْ جِهَتِهِ بِمَا عَقَدَ عَلَيْهِ كَمَا صَحَّ مِنْ جِهَتِهَا، فَلَا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ كَمَا لَا يَلْزَمُهَا لَهُ شَيْءٌ؛ وَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يُقَوَّمَ الْبُضْعُ عَلَيْهَا بِالدُّخُولِ وَبِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ، وَأَنْ لَا يَصِحَّ أَخْذُ الْبَدَلِ مِنْهَا لِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ بُضْعِهَا.
وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ مَا عَقَلَتْ الْأُمَّةُ مِنْ أَنَّ الزَّوْجَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بَدَلًا مِنْ اسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ، يَدُلُّ عَلَى سُقُوطِ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ حِينَ قَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي خَطَبَ إلَيْهِ الْمَرْأَةَ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ: {قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ فِي مَعْنَى الْمَالِكِ لِبُضْعِهَا.
وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ الْوَاقِعَ بَعْدَ الْعَقْدِ يُسْقِطُهُ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ، أَنَّ الْفَرْضَ إنَّمَا أُقِيمَ مَقَامَ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُهُ مَعَ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يُسْقِطَهُ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ كَمَا يَسْقُطُ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْفَرْضَ إنَّمَا أُلْحِقَ بِالْعَقْدِ وَلَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِيهِ، فَمِنْ حَيْثُ بَطَلَ الْعَقْدُ بَطَلَ مَا أُلْحِقَ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ ثُبُوتُهُ كَانَ بِالْعَقْدِ وَلَا يَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ.
قِيلَ لَهُ: قَدْ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: إنَّ الْمُسَمَّى قَدْ بَطَلَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ حَسَبَ وُجُوبِ الْمُتْعَةِ وَكَذَلِكَ قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: هَذَا مُتْعَتُهَا.
وَمِنْ النَّاسِ مِنْ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْمَهْرَ قَدْ يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَإِذَا سَمَّى دِرْهَمَيْنِ فِي الْعَقْدِ وَجَبَ بِقَضِيَّةِ الْآيَةِ أَنْ لَا تَسْتَحِقَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ.
وَهَذَا لَا يَدُلُّ عِنْدَنَا عَلَى مَا قَالُوا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الدِّرْهَمَيْنِ عِنْدَنَا تَسْمِيَةُ الْعَشَرَةِ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ لَا تَتَبَعَّضُ فِي الْعَقْدِ، وَتَسْمِيَةٌ لِبَعْضِهَا تَسْمِيَةٌ لِجَمِيعِهَا، كَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ لَمَّا لَمْ يَتَبَعَّضْ كَانَ إيقَاعُهُ لِنِصْفِ تَطْلِيقَةٍ إيقَاعًا لِجَمِيعِهَا؛ وَاَلَّذِي قَدْ فَرَضَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ قَدْ فَرَضَ الْعَشَرَةَ عِنْدَنَا، فَيَجِبُ نِصْفُهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْآيَةُ وُجُوبُ نِصْفِ الْمَفْرُوضِ، وَنَحْنُ نُوجِبُ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ ثُمَّ نُوجِبُ الزِّيَادَةَ إلَى تَمَامِ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ذِكْرُ اخْتِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الطَّلَاقِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: تَنَازَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَسِيسِ الْمُرَادِ بِالْآيَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: إذَا أَغْلَقَ بَابًا وَأَرْخَى سِتْرًا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَلَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ.
وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَإِبْرَاهِيمَ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ.
وَرَوَى فِرَاسٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَإِنْ قَعَدَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، وَالشَّعْبِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مُرْسَلٌ؛ وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ مِثْل قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ عَنْ عُمَرَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا فَرَضَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْمَتَاعُ.
فَمِنْ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ فِي هَذَا كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَرَضَ يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا، وَقَوْلَهُ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ يُرِيدُ قَبْلَ الْخَلْوَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَأَوَّلَهُ عَلَى الْخَلْوَةِ فِي حَدِيثِ طَاوُسٍ عَنْهُ، فَأَوْجَبَ لَهَا الْمُتْعَةَ قَبْلَ الْخَلْوَةِ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرٌ: الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ تَمْنَعُ سُقُوطَ شَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَطِئَ أَوْ لَمْ يَطَأْ؛ وَهِيَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُحْرِمًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ لَمْ تَكُنْ حَائِضًا أَوْ صَائِمَةً فِي رَمَضَانَ أَوْ رَتْقَاءَ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ كَذَلِكَ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إذَا لَمْ يَطَأْهَا، وَالْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إنْ طَلَّقَهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ: لَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا إذَا خَلَا بِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا إذَا جَاءَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِهِ، وَإِنْ كَانَتْ رَتْقَاءَ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إذَا خَلَا بِهَا وَقَبَّلَهَا وَكَشَفَهَا إنْ كَانَ ذَلِكَ قَرِيبًا فَلَا أَرَى لَهَا إلَّا نِصْفَ الْمَهْرِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ ذَلِكَ فَلَهَا الْمَهْرُ إلَّا أَنْ تَضَعَ لَهُ مَا شَاءَتْ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَدَخَلَ بِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا قَبَّلَهَا وَلَمَسَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُجَامِعْهَا، أَوْ أَرْخَى عَلَيْهَا سِتْرًا أَوْ أَغْلَقَ بَابًا فَقَدْ تَمَّ الصَّدَاقُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: إذَا خَلَا بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ؛ إذْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَإِنْ ادَّعَتْ الدُّخُولَ بَعْدَ الْخَلْوَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا بَعْدَ الْخَلْوَةِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: إذَا أَرْخَى عَلَيْهَا سِتْرًا فَقَدْ وَجَبَ الصَّدَاقُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا خَلَا بِهَا وَلَمْ يُجَامِعْهَا حَتَّى طَلَّقَ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مِمَّا يُحْتَجُّ بِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْكِتَابِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} فَأَوْجَبَ إيفَاءَ الْجَمِيعِ، فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ؛ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ} فِيهِ وَجْهَانِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، أَحَدُهُمَا: قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَالثَّانِي: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ} وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِفْضَاءُ الْخَلْوَةُ، دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَهُوَ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْإِفْضَاءَ اسْمٌ لِلْخَلْوَةِ؛ فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ الْخَلْوَةِ؛ وَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْخَلْوَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ مَمْنُوعًا فِيهَا مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ؛ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْفَضَاءِ مِنْ الْأَرْضِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي لَا بِنَاءَ فِيهِ وَلَا حَاجِزَ يَمْنَعُ مِنْ إدْرَاكِ مَا فِيهِ، فَأَفَادَ بِذَلِكَ اسْتِحْقَاقَ الْمَهْرِ بِالْخَلْوَةِ عَلَى وَصْفٍ وَهِيَ الَّتِي لَا حَائِلَ بَيْنَهُمَا وَلَا مَانِعَ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِمْتَاعِ؛ إذْ كَانَ لَفْظُ الْإِفْضَاءِ يَقْتَضِيهِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وقَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} يَعْنِي مُهُورَهُنَّ.
وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِيتَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنِ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنِ شَاذَّانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُعَلَّى بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: {مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأَةٍ وَنَظَرَ إلَيْهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ} وَهُوَ عِنْدَنَا اتِّفَاقُ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ فِرَاسٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ لَا يُثْبِتُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ طَرِيقِ فِرَاسٍ.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا هَوْذَةُ بْنُ خَلِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى قَالَ: قَضَى الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ أَنَّهُ مَنْ أَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا فَقَدْ وَجَبَ الْمَهْرُ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَضَاءُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ».
وَمِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَتِهَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ أَوْ التَّسْلِيمُ، فَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَجْبُوبِ مَعَ عَدَمِ الْوَطْءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ صِحَّةَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْوَطْءِ؛ إذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَصِحَّ الْعَقْدُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَطْءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا تَعَلَّقَتْ صِحَّتُهُ بِصِحَّةِ التَّسْلِيمِ كَانَ مَنْ لَا يَصِحُّ مِنْهَا التَّسْلِيمُ مِنْ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ لَمْ يَصِحَّ عَلَيْهَا الْعَقْدُ؟ وَإِذَا كَانَتْ صِحَّةُ الْعَقْدِ مُتَعَلِّقَةً بِصِحَّةِ التَّسْلِيمِ مِنْ جِهَتِهَا فَوَاجِبٌ أَنْ تَسْتَحِقَّ كَمَالَ الْمَهْرِ بَعْدَ صِحَّةِ التَّسْلِيمِ بِحُصُولِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ صِحَّةُ الْعَقْدِ لَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ قِبَلِهَا هُوَ التَّسْلِيمُ وَوُقُوعُ الْوَطْءِ إنَّمَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ فَعَجْزُهُ وَامْتِنَاعُهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ اسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَخْلُوِّ بِهَا: لَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا، مَا ذَنْبُهُنَّ إنْ جَاءَ الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِكُمْ؟ وَأَيْضًا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا وَخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ، كَذَلِكَ الْخَلْوَةُ فِي النِّكَاحِ.
وَإِنَّمَا قَالُوا إنَّهَا إذَا كَانَتْ مُحْرِمَةً أَوْ حَائِضًا أَوْ مَرِيضَةً أَنَّ ذَلِكَ لَا تَسْتَحِقُّ بِهِ كَمَالَ الْمَهْرِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ هُنَاكَ تَسْلِيمًا آخَرَ صَحِيحًا تَسْتَحِقُّ بِهِ كَمَالَ الْمَهْرِ؛ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ تَسْلِيمًا صَحِيحًا؛ وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ التَّسْلِيمُ الْمُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ لَمْ تَسْتَحِقَّ كَمَالَ الْمَهْرِ.
وَاحْتَجَّ مَنْ أَبَى ذَلِكَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} فَعَلَّقَ اسْتِحْقَاقَ كَمَالِ الْمَهْرِ وَوُجُوبَ الْعِدَّةِ بِوُجُودِ الْمَسِيسِ وَهُوَ الْوَطْءُ؛ إذْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ وُجُودَ الْمَسِّ بِالْيَدِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} قَدْ اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا، فَتَأَوَّلَهُ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ وَابْنُ عُمَرَ عَلَى الْخَلْوَةِ؛ فَلَيْسَ يَخْلُو هَؤُلَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا تَأَوَّلُوهَا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ أَوْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ اسْمٌ لَهُ فِي الشَّرْعِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَأْوِيلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا لَيْسَ بِاسْمٍ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلَا فِي اللُّغَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ اسْمًا لَهُ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ فَهُمْ حُجَّةٌ فِيهَا؛ لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِاللُّغَةِ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ فَأَسْمَاءُ الشَّرْعِ لَا تُؤْخَذُ إلَّا تَوْقِيفًا؛ وَإِذَا صَارَ ذَلِكَ اسْمًا لَهَا صَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ الْخَلْوَةِ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ، وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الْمَسِّ بِالْيَدِ وَتَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْجِمَاعِ وَبَعْضُهُمْ، عَلَى الْخَلْوَةِ، وَمَتَى كَانَ اسْمًا لِلْجِمَاعِ كَانَ كِنَايَةً عَنْهُ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ؛ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْخَلْوَةُ سَقَطَ اعْتِبَارُ ظَاهِرِ اللَّفْظِ، لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ مَعْنَاهُ وَهُوَ الْمَسُّ بِالْيَدِ، وَوَجَبَ طَلَبُ الدَّلِيلِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الدَّلَالَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مُرَادَ الْآيَةِ هُوَ الْخَلْوَةُ دُونَ الْجِمَاعِ، فَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ لَا يَخُصَّ بِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ظَوَاهِرِ الْآيِ وَالسُّنَّةِ.
وَأَيْضًا لَوْ اعْتَبَرْنَا حَقِيقَةَ اللَّفْظِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لَوْ خَلَا بِهَا وَمَسَّهَا بِيَدِهِ أَنْ تَسْتَحِقَّ كَمَالَ الْمَهْرِ لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْمَسِّ، وَإِذَا لَمْ يَخْلُ بِهَا وَمَسَّهَا بِيَدِهِ خَصَّصْنَاهُ بِالْإِجْمَاعِ؛ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْجِمَاعَ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ وَفِي حُكْمِهِ مِنْ صِحَّةِ التَّسْلِيمِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} وَمَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ الْفُرْقَةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُهُ فِي إبَاحَتِهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَجْبُوبِ إذَا جَامَعَ امْرَأَتَهُ أَنَّ عَلَيْهِ كَمَالَ الْمَهْرِ إنَّ طَلَّقَ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِوُجُودِ الْوَطْءِ وَإِنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِصِحَّةِ التَّسْلِيمِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ التَّسْلِيمُ قَائِمًا مَقَامَ الْوَطْءِ لَوَجَبَ أَنْ يَحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ كَمَا يَحِلُّ الْوَطْءُ.
قِيلَ لَهُ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إنَّمَا هُوَ عِلَّةٌ لِاسْتِحْقَاقِ كَمَالِ الْمَهْرِ وَلَيْسَ بِعِلَّةٍ لِإِحْلَالِهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ مَاتَ عَنْهَا قَبْلَ الدُّخُولِ اسْتَحَقَّتْ كَمَالَ الْمَهْرِ وَكَانَ الْمَوْتُ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ.
قَوْله تَعَالَى: {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} قَوْله تَعَالَى: {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ} الْمُرَادُ بِهِ الزَّوْجَاتُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْأَزْوَاجَ لَقَالَ إلَّا أَنْ يَعْفُوا وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ.
وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ: وَيَكُونُ عَفْوُهَا أَنْ تَتْرُكَ بَقِيَّةَ الصَّدَاقِ وَهُوَ النِّصْفُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَكُونُ الصَّدَاقُ عَرَضًا بِعَيْنِهِ وَعَقَارًا لَا يَصِحَّ فِيهِ الْعَفْوُ.
قِيلَ لَهُ: لَيْسَ مَعْنَى الْعَفْوِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ تَقُولَ قَدْ عَفَوْت، وَإِنَّمَا هُوَ التَّسْهِيلُ أَوْ التَّرْكُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنْ تَتْرُكَهُ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْجَائِزِ فِي عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ، فَكَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: أَنْ تُمَلِّكَهُ إيَّاهُ وَتَتْرُكُهُ لَهُ تَمْلِيكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ تَأْخُذُهُ مِنْهُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا يُقَسَّمُ لِإِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا تَمْلِيكَ نِصْفِ الْفَرِيضَةِ إيَّاهُ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهَا عَيْنًا أَوْ دَيْنًا وَلَا بَيْنَ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَوْ لَا يَحْتَمِلُهَا، فَوَجَبَ بِقَضِيَّةِ الْآيَةِ جَوَازُ هِبَةِ الْمُشَاعِ.
فَيُقَالُ لَهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَنْت؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنَى فِي الْعَفْوِ أَنْ تَقُولَ قَدْ عَفَوْتُ؛ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ قَدْ عَفَوْت لَك عَنْ دَارِي هَذِهِ أَوْ قَدْ أَبْرَأْتُك مِنْ دَارِي هَذِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجِبُ تَمْلِيكًا وَلَا يَصِحُّ بِهِ عَقْدُ هِبَةٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ مِنْ الْعَفْوِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِجَوَازِ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ بِهِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ تَمْلِيكُهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَجُوزُ عَلَيْهِ عُقُودُ الْهِبَاتِ وَالتَّمْلِيكَاتِ، إذْ كَانَ اللَّفْظُ الَّذِي بِهِ يَصِحُّ التَّمْلِيكُ غَيْرَ مَذْكُورٍ، فَصَارَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الدَّلَالَةِ، فَمَا جَازَ فِي الْأُصُولِ جَازَ فِي ذَلِكَ وَمَا لَمْ يَجُزْ فِي الْأُصُولِ مِنْ عُقُودِ الْهِبَاتِ لَمْ يَجُزْ فِي هَذَا.
وَمَعَ هَذَا فَإِنْ كَانَ هَذَا السَّائِلُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يُجِيزَ الْهِبَةَ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْمَهْرِ الْمَقْبُوضِ وَغَيْرِ الْمَقْبُوضِ، فَإِذَا عَفَتْ وَقَدْ قَبَضَتْ فَوَاجِبٌ أَنْ يَجُوزَ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمِهِ إلَى الزَّوْجِ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى شُرُوطِ الْهِبَاتِ كَانَ كَذَلِكَ فِي الْمُشَاعِ.
وَإِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَاحْتَجَّ بِهِ فِي جَوَازِهَا فِي الْمُشَاعِ وَقَبْلَ الْقَبْضِ، كَانَ الْكَلَامُ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فَإِنَّ السَّلَفَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ عَلِيٌّ وَجُبَيْرِ بْنُ مُطْعِمٍ وَنَافِعُ بْن جُبَيْرٍ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنِ كَعْبٍ وَقَتَادَةُ وَنَافِعٌ: هُوَ الزَّوْجُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزَفَرُ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ، قَالُوا: عَفْوُهُ أَنْ يُتِمَّ لَهَا كَمَالَ الْمَهْرِ بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ قَالُوا: وقَوْله تَعَالَى: {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ} الْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا مَا رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الزَّوْجُ وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ بِالْعَفْوِ وَأَمَرَ بِهِ، وَإِنْ عَفَتْ فَكَمَا عَفَتْ، وَإِنْ ضَنَّتْ وَعَفَا وَلِيُّهَا جَازَ وَإِنْ أَبَتْ.
وَقَالَ عَلْقَمَةُ وَالْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ وَعَطَاءٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الزِّنَادِ: هُوَ الْوَلِيُّ.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَهِيَ بِكْرٌ جَازَ عَفْوُ أَبِيهَا عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ، وقَوْله تَعَالَى: {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ} اللَّاتِي قَدْ دَخَلَ بِهِنَّ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الصَّدَاقِ إلَّا الْأَبَ وَحْدَهُ، لَا وَصِيَّ وَلَا غَيْرَهُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: لِأَبِي الْبِكْرِ أَنْ يَضَعَ مِنْ صَدَاقِهَا عِنْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ وَيَجُوزُ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَبَعْدَ عُقْدَةِ النِّكَاحِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضَعَ شَيْئًا مِنْ صَدَاقِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا عَفْوُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ صَدَاقِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَجُوزُ لَهُ مُبَارَأَةُ زَوْجِهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْ أَبِيهَا لَهَا، فَكَمَا لَمْ يَجُزْ لِلْأَبِ أَنْ يَضَعَ شَيْئًا مِنْ صَدَاقِهَا بَعْدَ النِّكَاحِ كَذَلِكَ لَا يَعْفُو عَنْ نِصْفِ صَدَاقِهَا بَعْدَ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ مُبَارَأَتَهُ عَلَيْهَا جَائِزَةٌ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} مُتَشَابِهٌ لَاحْتِمَالِهِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ تَأَوَّلَهُمَا السَّلَفُ عَلَيْهِمَا، فَوَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْمُحْكَمِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فَهَذِهِ الْآيَاتُ مُحْكَمَةٌ لَا احْتِمَالَ فِيهَا لِغَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي اقْتَضَتْهُ، فَوَجَبَ رَدُّ الْآيَةِ الْمُتَشَابِهَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} إلَيْهَا؛ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى النَّاسَ بِرَدِّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ، وَذَمِّ مُتَّبِعِي الْمُتَشَابِهِ مِنْ غَيْرِ حَمْلِهِ عَلَى مَعْنَى الْمُحْكَمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعَانِي، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ الْأُصُولِ؛ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْأَبِ هِبَةُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا لِلزَّوْجِ وَلَا لِغَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ الْمَهْرُ؛ لِأَنَّهُ مَالُهَا.
وَقَوْلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْوَلِيِّ خَارِجٌ عَنْ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى غَيْرِهِ فِي هِبَةِ مَالِهِ؛ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ خَارِجًا عَنْهَا وَجَبَ حَمْلُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مُوَافَقَتِهَا؛ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ لَاحْتِمَالِهِ لِلْمَعَانِي، وَمَا لَيْسَ بِأَصْلِ فِي نَفْسِهِ فَالْوَاجِبُ رَدُّهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأُصُولِ وَاعْتِبَارُهُ بِهَا.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ وَوُجِدَ نَظَائِرُهُمَا فِي الْأُصُولِ لَكَانَ فِي مُقْتَضَى اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِظَاهِرِ اللَّفْظِ مِنْ الْوَلِيِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْوَلِيَّ بِحَالٍ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْعُقْدَةُ مَوْجُودَةً وَهِيَ فِي يَدِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ، فَأَمَّا عُقْدَةٌ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا فِي يَدِ أَحَدٍ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ عُقْدَةٌ مَوْجُودَةٌ فِي يَدِ الْوَلِيِّ قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا بَعْدَهُ وَقَدْ كَانَتْ الْعُقْدَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَقَدْ تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ بِحَالٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهُ عَلَى الزَّوْجِ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الْوَلِيِّ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا حَكَمَ اللَّهُ بِذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَلَيْسَتْ عُقْدَةُ النِّكَاحِ بِيَدِ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ.
قِيلَ لَهُ: يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ بِأَنْ يُرِيدَ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَالْوَلِيُّ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ، وَلَا هِيَ فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ، فَكَانَ الزَّوْجُ أَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ مِنْ الْوَلِيِّ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ: {وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} فَنَدَبَهُ إلَى الْفَضْلِ؛ وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وَلَيْسَ فِي هِبَةِ مَالِ الْغَيْرِ إفْضَالٌ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ وَالْمَرْأَةُ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا إفْضَالٌ.
وَفِي تَجْوِيزِ عَفْوِ الْوَلِيِّ إسْقَاطُ مَعْنَى الْفَضْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَة، وَجَعَلَهُ تَعَالَى بَعْد الْعَفْوِ أَقْرَبَ لِلتَّقْوَى، وَلَا تَقْوَى لَهُ فِي هِبَةِ مَالِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ لَمْ يَقْصِدْ إلَى الْعَفْوِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ سِمَةَ التَّقْوَى.
وَأَيْضًا فَلَا خِلَافَ أَنَّ الزَّوْجَ مَنْدُوبٌ إلَى ذَلِكَ، وَعَفْوُهُ وَتَكْمِيلُ الْمَهْرِ لَهَا جَائِزٌ مِنْهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهَا؛ وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُرَادًا انْتَفَى أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مُرَادًا بِهَا؛ لِأَنَّ السَّلَفَ تَأَوَّلُوهُ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: إمَّا الزَّوْجِ، وَإِمَّا الْوَلِيِّ؛ وَإِذْ قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ مُرَادٌ وَجَبَ أَنْ تَمْتَنِعَ إرَادَةُ الْوَلِيِّ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ النَّدْبِ إلَى الْفَضْلِ وَإِلَى مَا يَقْرُبُ مِنْ التَّقْوَى، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خِطَابًا مَخْصُوصًا بِهِ الْمَالِكُ دُونُ مَنْ يَهَبُ مَالَ الْغَيْرِ، لَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الْأُصُولِ أَنْ تَلْحَقَ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ لِلْوَلِيِّ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِإِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ الصَّغِيرِ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ، وَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ وَالْخِتَانُ.
قِيلَ: أَغْفَلْت مَوْضِعَ الْحِجَاجِ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ، وَذَلِكَ أَنَّا قُلْنَا: هُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلثَّوَابِ وَالْفَضْلِ بِالتَّبَرُّعِ بِمَالِ الْغَيْرِ، فَعَارَضْتنَا بِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ فِي مَالِهِ فَأَخْرَجَهُ عَنْهُ وَلِيٌّ وَهُوَ الْأَبُ، وَنَحْنُ نُجِيزُ لِلْوَصِيِّ وَلِغَيْرِ الْوَصِيِّ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُ هَذِهِ الْحُقُوقَ وَلَا نُجِيزُ عَفْوَهُمْ عَنْهُ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْأُضْحِيَّةُ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ وَإِخْرَاجِ مَا لَا يَلْزَمُ مِنْ مِلْكِهَا.
وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ احْتَجَّ لِمَالِكٍ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الزَّوْجَ لَقَالَ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الزَّوْجُ لِمَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الزَّوْجَيْنِ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ رَاجِعًا إلَيْهِمَا جَمِيعًا، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إلَى ذِكْرِ مَنْ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالصِّفَةِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الزَّوْجَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَذَا الْكَلَامُ فَارِغٌ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَذْكُرُ إيجَابَ الْأَحْكَامِ تَارَةً بِالنُّصُوصِ، وَتَارَةً بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ عَلَيْهِ، وَتَارَةً بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ لِلْمَعَانِي وَهُوَ فِي بَعْضِهَا أَظْهَرُ وَبِهِ أَوْلَى، وَتَارَةً بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ يَتَنَاوَلُ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً يُحْتَاجُ فِي الْوُصُولِ إلَى الْمُرَادِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ؛ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ: «لَوْ أَرَادَ الزَّوْجَ لَقَالَ أَوْ يَعْفُوَ حَتَّى يَرْجِعَ الْكَلَامُ إلَى الزَّوْجِ دُونَ غَيْرِهِ وَلَمَا عَدَلَ عَنْهُ إلَى لَفْظٍ مُحْتَمَلٍ» خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ لَا مَعْنَى لَهُ، وَيُقَالُ لَهُ: لَوْ أَرَادَ الْوَلِيَّ لَقَالَ الْوَلِيُّ وَلَمْ يُورِدْ لَفْظًا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْوَلِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: «إنَّ الْعَافِيَ هُوَ التَّارِكُ لِحَقِّهِ، وَهِيَ إذَا تَرَكَتْ النِّصْفَ الْوَاجِبَ لَهَا فَهِيَ عَافِيَةٍ، وَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ فَإِنَّ الزَّوْجَ إذَا أَعْطَاهَا شَيْئًا غَيْرَ وَاجِبٍ لَهَا لَا يُقَالُ لَهُ عَافٍ وَإِنَّمَا هُوَ وَاهِبٌ» وَهَذَا أَيْضًا كَلَامٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ تَأَوَّلُوهُ عَلَى الزَّوْجِ قَالُوا: إنَّ عَفْوَهُ هُوَ إتْمَامُ الصَّدَاقِ لَهَا وَهُمْ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَهُمْ أَعْلَمُ بِمَعَانِي اللُّغَةِ وَمَا تَحْتَمِلُهُ مِنْ هَذَا الْقَائِلِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَفْوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَيْسَ هُوَ قَوْلُهُ: «قَدْ عَفَوْت» وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهِ تَكْمِيلُ الْمَهْرِ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ تَمْلِيكُ الْمَرْأَةِ النِّصْفَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الطَّلَاقِ إيَّاهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَهْرَ لَوْ كَانَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ لَكَانَ حُكْمُ الْآيَةِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ وَالنَّدْبُ الْمَذْكُورُ فِيهَا قَائِمًا فِيهِ، وَيَكُونُ عَفْوُ الْمَرْأَةِ أَنْ تُمَلِّكَهُ النِّصْفَ الْبَاقِيَ لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ لَا بِأَنْ تَقُولَ قَدْ عَفَوْت وَلَكِنْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ عُقُودُ التَّمْلِيكَاتِ؟ فَكَذَلِكَ الْعَفْوُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ لَيْسَ هُوَ أَنْ يَقُولَ: «قَدْ عَفَوْت» لَكِنْ بِتَمْلِيكٍ مُبْتَدَأٍ عَلَى حَسَبِ مَا تَجُوزُ التَّمْلِيكَاتُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ قَدْ قَبَضَتْ الْمَهْرَ وَاسْتَهْلَكَتْهُ كَانَ عَفْوُ الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إبْرَاءَهَا مِنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ الْمَهْرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ كَانَ عَفْوُهَا إبْرَاءَهُ مِنْ الْبَاقِي، فَكُلُّ عَفْوٍ أُضِيفَ إلَى الْمَرْأَةِ فَمِثْلُهُ يُضَافُ إلَى الزَّوْجِ.
وَيُقَالُ: فَمَا تَقُولُ فِي عَفْوِ الْوَلِيِّ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ هُوَ فَإِنَّا نَجْعَلُ عَفْوَ الزَّوْجِ عَلَى مِثْلِهَا، فَالِاشْتِغَالُ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَا يُجْدِي نَفْعًا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَلَامٌ فِي لَفْظِ الْعَفْوِ وَالْعُدُولُ عَنْهُ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُنْتَقَضٌ عَلَى قَائِلِهِ، إلَّا أَنِّي ذَكَرْتُهُ إبَانَةً عَنْ اخْتِلَالِ قَوْلِ الْمُخَالِفِينَ وَلَجَأَهُمْ إلَى تَزْوِيقِ الْكَلَامِ بِمَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ.
وقَوْله تَعَالَى: {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ} يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: «إنَّ الْبِكْرَ إذَا عَفَتْ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ» وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ فِي قوله: {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ} وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ وَابْتِدَاءُ خِطَابِهِ حِينَ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} عَامًّا فِي الْأَبْكَارِ وَالثَّيِّبِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ} عَامًّا فِي الْفَرِيقَيْنِ مِنْهُمَا، وَتَخْصِيصُ الثَّيِّبِ بِجَوَازِ الْعَفْوِ دُونَ الْبِكْرِ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ.
وقَوْله تَعَالَى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَدَفْعَهَا إلَيْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ اشْتَرَتْ بِهَا مَتَاعًا، أَنْ يَكُونَ لَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ وَتَضْمَنُ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ؛ وَقَالَ مَالِكٌ: يَأْخُذُ الزَّوْجُ نِصْفَ الْمَتَاعِ الَّذِي اشْتَرَتْهُ وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ لَهُ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا وَلَا هُوَ قِيمَةٌ لَهُ؟ وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَ الْبَائِعُ الْأَلْفَ وَاشْتَرَى بِهَا مَتَاعًا ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَتَاعِ الَّذِي اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ سَبِيلٌ، وَكَانَ الْمَتَاعُ كُلُّهُ لِلْبَائِعِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي أَلْفًا مِثْلَهَا.
فَالنِّكَاحُ مِثْلُهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا؛ إذْ لَمْ يَقَعْ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى الْمَتَاعِ كَمَا لَمْ يَقَعْ عَقْدُ الْبَيْعِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْأَلْفِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. اهـ.